أولا ـ تذكير موجز بالسياق السياسي للوقائع المعروضة
من أجل انتخابات نزيهة ونظيفة.. كان هذا شعار الأخ/ سيد أحمد غزالي، الذي أوكل إليه الرئيس الشاذلي بن جديد مهمة تشكيل الحكومة الجزائرية بمرسوم مؤرخ في يوم 05 / 06 / 1991 - مع تكليفه بإجراء هذه الانتخابات قبل نهاية السنة الجارية1991. وقد تم إعلان التشكيلة يوم 18 / 06 من السنة نفسها. وجرت الانتخابات بالفعل، طبقا للتعليمات الرئاسية، في يوم 26 ديسمبر من هذا العام، وجاء وزير الداخلية إلى مقر هيأة التلفزة الوطنية ليعلن نجاح الجبهة الإسلامية بأغلبية مقاعد الدورة الأولى؛ وقال لا يهم من هو الفائز بها، لأن الفائز الحقيقي هو الجزائر، ومسار الديمقراطية فيها... ولم تمض إلا أيام قليلة حتى أصدر المجلس الدستوري قراره الـرسمي بـصحة تلك الانتخابات، ثم صدرت الجريدة الرسمية بذلك، فالقرار وبأسـماء الـنواب الذيـن صح انتخابهم في الدور الأول. ولم يَخـْـفَ إلا على الذين لم يكونوا يتابعون عن كـَـثــَبٍ الرَّجّـة العظمى التي أحدثتها تلك النتائج في كل مفاصل النظام الحاكم؛ أن الحديث المتكرر عن إلغائها قد تجاوز مراحل الهمس به، إلى مباشرة التشاور (ضمن دوائر القرار الفعلي) حول أقصر الطرق، وأقلها تكلِفة، لتحقيق مطلب ذلك الإلغاء والتوقيف. ثم نضج القرار، واتضحت طرق اتخاذه بصفة رسمية، فكان لا بد حينئذ من إلباسه ِرداءَ الواجهة الشرعية القانونية، من خلال المؤسسات الرسمية. وكان لا مَحِـيصَ من المرور بمجلس الوزراء..
ــ يوم 27 / 12 / 1992ـ انعقد مجلس الحكومة لدراسة نتائج الانتخابات التشريعية التى كانت دورتها الأولى قد جرت قبل أيام قليلة، كما أسلفت. وكانت المرة الأولى، فيما أذكر، التي ينعقـد فيها المجلس بكامل أعضائه. فإن وزير الدفاع، اللواء خالد نزار، لم يسبق له الحضور. ووزير الخارجية، الأخ لخضر إبراهيمي لم يحضره إلا في مرات قليلة، وبالأخص عندما يكون ضمن جدول الأعمال مناقشة الاتفاقات والمعاهدات الدولية التي ستعرض للتصديق عليها في مجلس الوزراء. وسبب عدم حضور الوزيرين المذكورين بانتظام هو أن قطاعي العلاقات الدولية والاتصالات الخارجية، من ناحية؛ وشؤؤن الدفاع الوطني والمسائل العسكرية، من ناحية أخرى، خارجة عن اختصاصات رئيس الحكومة الدستورية، لأنها من الصلاحيات الحصرية لرئيس الدولة. فدلَّ حضورُهما معًا على أهمية هذا الاجتماع..
ــ يوم 12 / 01 / 1992 ـ قدم الرئيس الشاذلي بن جديد استقالته، أو ما سُـمِّي كذلك، بعد الظهر. ودُعِينا على عجل إلى اجتماع في قصر الحكومة على الساعة السادسة والنصف مساء. وانعقد المجلس بكامل أعضائه للمرة الثانية. وكان جدول الأعمال المطروح يتضمن نقطتين اثنتين، الأولى دراسة المشكلة التي طرحتها استقالة الرئيس مع حل المجلس الشعبي الوطني، وهو ما يثير مشكلة الفراغ الدستوري في قمة السلطة... والنقطة الثانية هي "مشكلة الدور الثاني للانتخابات التشريعية"... طلب رئيس الحكومة أن يتناول كل الوزراء الكلمة، الواحد بعد الآخر، تـَـبَعـًا لوضع جلوسهم حول طاولة الاجتماع، حتى تظهر مواقف الجميع بكل جَـلاء... ولو وُجـدَ في بلادنا قانونٌ يُنـَظم عملية فتح خزائن الأرشيف الحساس أمام الباحثين، بعـد مرور فترة معينة، كأن تكون عشرين سنة.. مثلا، لتمكينهم من الاطـِّلاع على ما يهمهم أو يعنيهم منها. لو كان ذلك ممكنا عـندنا اليوم لاستـطاع أي باحث "يزور" المحاضر الصوتية الخاصة بمجلس الحكومة في التاريخ المذكور، أن يستنتج بكل بساطة، أن كل المتكلمين قد تناولوا بصفة خاصة النقطة الثانية من جدول الأعمال، وأنهم ذهبوا جميعا إلى ضرورة توقيف المسار الانتخابي، وإن جاء ذلك بعبارات، ونبرات صوتية مختلفة... إلا واحدًا منهم.. قـد شـَذ عن الجميع، هو كاتب هذه الفقرات... فقد كان حَذرَ من العواقب الوخيمة التي ستنتج عن توقيف الدور الثاني من الانتخاب، بعد "الابتهاج بنجاح الديمقراطية والجزائر"، وبعد تصديق المجلس الدستوري لها، واعتمادها رسميا بنشرها في الجريدة الرسمية.. وكانت حجتي أن الانسياق وراء المبالغة في التهويل والتخويف التي ظلت تبثها "أقليات ساحقة"!.. معروفة المواقف والخلفيات، ستؤدي إلى إغراق البلد في مآسي لا نهاية لها.. وكان الرأي عندي أن في الدستور من الضوابط، والتدابير الاحتياطية.. ما يتيح لقيادة البلد معالجة كل الحالات الطارئة التي تتصاعد أصوات التخويف من حدوثها. وأقل تلك الضوابط ما بيد رئيس الدولة من صلاحيات حل المجلس الوطني في كل حين.. ولكن قطار المأساة كان قد انطلق قبل انعقاد المجلس.. وهيهات أن يقوى صوت الأناة، والتريث، على توقيفه أو تخفيف اندفاعته المجنونة. وكل المطلوب من المجلس هو توفير المبرر الشرعي للإجراءات المتخذة خارجه..
أنا من الجيل الذي نشأت بواكير إدراكه السياسي الوطني في عز الثورة الجزائرية، أواخر الخمسينيات، ونحن تلاميذ في الثانويات؛ فكانت جبهة التحرير، قائدة الكفاح الوطني الثوري هي الإطار المرجعي الأسمى لمواقفنا وتحليلنا لواقع بلدنا المجاهد، ورسم آفاق مستقبلنا الذي لم نكن نتصوره لحظة واحدة بمَعْزل عن مستقبل الوطن نفسه. وقد بقيتُ طـَوَال عمري منتميا لهذا الإطار الفكري، لم أحد عنه أبدا، ولم أغـيّرْه حتى حين كنتُ أبتعـد عن هياكله وأقاطع مؤسساته عندما أراها مالت عما أعتقده الحق والصواب، أو أجد أن قيادته لا تمثل، أو لم تعد تمثل ذلك الخط الفكري الناظم لعقيدة جبهة التحرير التي هي علة وجودها، والمبرر الأساسي لاستمرارها... لقد شعرت بضرورة تقديم هذه التوضيحات ليُعْلم أنني، حين انفردت بذلك الموقف قي أجواء تلك الفترة الصعبة للغاية ومناخ توجيه الاتهامات السريعة لكل من يخالف الأفكار الرائجة، أو يجانب مسالك الرأي المعبَّـدة.. لم أغير حزبي، الذي كنت يومئذ عضوا في لجنته المركزية.. وكان واجب الدفاع عن سلامة الوطن، وأمن الوطن يفوقان عندي كل الاعتبارات الحزبية كيفما كانت طبيعتها... ومما لا ريب فيه أن هذا الموقف لم يرفع أسهمي في بورصة القيم السياسية..
ــ يوم 14 / 01 / 1992 ـ اجتمع المجلس الأعلى للأمن، واتخذ مجموعة
من القرارات أهمها إنشاء المجلس الأعلى للدولة، وتوقيف المسار الانتخابي. ثم نـُـصِّب المجاهد محمد بوضياف، رحمة الله عليه، يوم 14 / 01 / 1992، رئيسا لهذا المجلس. وبدأت مرحلة جديدة للوطن سـتـنمو فيها الآفات سِراعًا، كأزهار الشر، حتى حوّلت الحياة فيه إلى جحيم لا يُطــاق..
مسلسل الاستفزاز المـمـهد للفــعـلة الشـنعاء
ــ يوم 28 / 01 / 1992 ـ وصلتْ إلى ديواني رسالة مصحوبة بمجلة صغيرة اسمها "السِّـيـتال" (La Sittelle)... وهو اسم يطلق على طائر صغير، يوجد نوع منه في الجزائر، في مرتفعات منطقة القبائل، يقال إنه في طريقه إلى الانقراض، ويسمى "السيتال القبائلية".. عندما تصفحت هذا العدد رقم صفر، ولا أظن أنه كان له ما بعده. وكانت هيأة تحريره مكونة، أساسا، من مجموعة من أستاذات اللغة الفرنسية العاملة بمعهد بوزريعة للغات الأجنبية. في افتتاحيته أن المجلة موجهة لأساتذة اللغة الفرنسية في التعليم الثانوي.. وقد عجبت أن توجه لهم هذه المطبوعة بصفة خاصة، دون اتصال بوزارة التربية، أو تشاور معها!.. وشدّ انتباهي فيها أنها في ركن منها قد شنت هجوما كاسحا على تجْـِربة "الأقسام الخاصة" التي سمتها الصحافة (أقسام الموهوبين).. وفي ركن آخر توجيه لأولئك الأساتذة نحو مراكز التوثيق التابعة للسفارة الفرنسية، مع عناوينها قي قسنطينة وعنابة ووهران وتلمسان وتيزي وزو وسكيكدة وبجاية... وزاد عجبنا حين رأيناها تشير إلى أنها ممولة من وزارة التعليم العالي، بوصفها "مشروعا بحثيا جامعيا"!! وأن عنوان مقرها هو معهد اللغات الأجنبية في بوزريعة.. وسيكون لهؤلاء الأستاذات نشاط متميز في مقاومة مشروع وزارة التربية الخاص بتدريس اللغة الإنجليزية في التعليم الابتدائي.
ــ يوم 09 / 02 / 1992 ـ وصلت رسالة من مصالح ولاية الجزائر إلى مديرية التربية بالعاصمة تستطلع رأيها في الملف الملحق بها. وطلب لإنشاء مدرسة خاصة في أحد فضاءات حديقة الحيوانات بابن عكنون، مقدم من المدعوة / مليكة ڤريفو.. وكان جواب مديرية التربية برفض المشروع، لأنه مخالـف لأحكـام أمريــة 16 إبريل 1976، السارية يومئذ. وذلك بعد تنقل فريق تفتيشي إلى مقر المدرسة لمعاينة حقيقتها فإذا بهم يجدون شبه تلك المدرسة في الحديقة المذكورة، قد بدأت العمل، إن صحت تسمية ذلك الشيء بـ"العمل..." ولم تنتظر لا موافقة الوزارة ولا صدور رخصة الولاية التي تبين، بوضوح، أن الولاية منغمسة تماما في التواطؤ... طلبنا إغلاقها فلم تغلق، وهي إلى الآن في مكانها، إذ بقِـيَـت خارج أحكام القـانـون حتى صدر التشريع الذي سمح بفتح المدارس الخاصة... ومعلوم أن المعنية نفسها كانت قد استفادت من تواطؤ مماثل حين فـُـتِحتْ لها "مدرسة" خارج القانون، في روضة أطفال بالمركب السياحي في تيبازة. ولم يستجب الوالي لإغلاقها (24 / 02 / 1991) إلا بعد التهديد بوضع كل تفاصيل الموضوع في متناول الصحف لإطلاع الشعب على تفاصيلها، ونشر تقرير المفتش التي زارها لكشف الواقع البائس لهذا الوكر السري.. وكان الوالي نفسه محلَّ ضغوط شديدة تمارس عليه لعدم إغلاقها...
ــ يوم 15 / 02 / 1992 ـ كانت مديرة ثانوية الشيخ بوعمامة قد حولت إلى مصالح الوزارة رسالة مبعوثة إليها من مدير "الديوان الثقافي الفرنسي" بالجزائر، بصفة مباشرة وكأنه ليس في البلد لا وزارة خارجية، ولا وزارة تربية.. وهو يخاطب مديرة ثانوية جزائرية كما لو كانت عونا من أعوانه، أو كما لو أن الثانوية المعنية مؤسسة فرنسية فوق أرض فرنسية.. فحولت نسخة منها إلى وزير الخارجية طالبا تنبيه السفير الفرنسي إلى التقيد بالأعراف الدبلوماسية. وموضوع الرسالة معرفة الأساتذة الفرنسيين الذين ترغب الجزائر في تجديد عقودهم للسنة الدراسية القادمة. وهؤلاء هم الذين يدرسون البرنامج الفرنسي لمن يسمون "أبناء الدبلوماسيـيـن". كلفت مدير التربية بأن يبحث أمر الأساتذة الفرنسيين، وأن يوافيني بقائمة كل الأساتذة الذين بإمكاننا تعويضهم بأساتذة جزائريين، من الذين كانوا يدرسون تلك المواد نفسها باللغة الفرنسية قبل تعريبها. فوردتني قائمة بأسماء سبعة عشر مدرسا نستطيع تعويضهم بعناصر جزائرية، بكل يُسْـر لا يقلون عن أولئك علما ولا كفاءة. ثم خاطبنا وزارة الخارجية بإخبار المعنيين بانتهاء مهمتهم في ثانوية بوعمامة، مع رسالة شكر وتقدير على المهمة التي قاموا بها لدينا..
عندما وصلت رسائلنا.. قامت القيامة في المديريات المعنية بوزارة الخارجية، لأن الأمر أخذ أيضا من زاوية كونه يعني أبنائهم.. وقد أتاحت لنا فرصة متابعة الموضوع أن نكتشف حقيقة مذهلة، هي أنه تحت غطاء منح من يُسمَّوْن أبناء الدبلوماسيين تعليما فرنسيا محضا، عن طريق برنامج فرنسي كامل، وبواسطة أساتذة فرنسيين... كان المئات من أصحاب النفوذ، والوضعيات المتميزة، و"الأكتاف الحامية"، والجيوب المنتـفخة يحصلون لأبنائهم، منذ القسم المعادل عندنا للسنة الأولى الإكمالية، أو المتوسطة، على تعليم مخالف مائة قي المائة للتعليم الممنوح لثمانية ملايين تلميذ جزائري.. وتبين الإحصاءات الرسمية وقتئذ، أنه من بين 486 تلميذا مسجلا في المرحلة الثانوية (أي الطور الثاني الثانوي)، 99 تلميذا فقط، (أي بنسبة 20,37 %)، هم من "أبناء الدبلوماسيين" (والملحقين بهم من أبنــاء أفراد الوكالات الجزائرية في الخارج، كمكانب الخطوط الجزائرية وغير ذلك..) والباقي هم ممن لا حق لهم قي ذلك التعليم، لو كان في البلد قانون يطبق. وقي التعليم المتوسط، أو ما يسمى الطور الأول الثانوي في مصطلحاتهم، من بين العدد الإجمالي البالغ 509 تلاميذ، يوجد من أبناء الدبلوماسيين والملحقين بهم 137 تلميذا فقط، (أي بنسبة 26,9 %)، والباقي أي 372 تلميذا لا مكان لهم هنا حسب القانون..
جمعت هذه الثانوية كل أنواع المشاكل.. فهي زيادة على كونها ثانوية تأوي كما رأينا مرحلة التعليم المتوسط.. بل إنها تشتمل ايضا، في داخلها، ابتدائية أيضا... وليست ابتدائية فقط، بل هي، إلى ذلك، تحَصِّـلُ رسوما، من أولياء التلاميذ الصغار مقابل توفير وجبة الغداء لهم كل يوم. وذلك ما يطرح مشاكل خطيرة تتعلق بالمحاسبة المالية، وكيف تسير تلك الأموال، ومن هو المسؤول عن شراء المواد، ومن يحاسب من؟ في وضعية كلها غير شرعية.. بالإضافة إلى مسؤولية حراسة أطفال ما بين الخامسة والعاشرة، أو الحادية عشرة من العمر، خارج وقت الدراسة! لأن الأطفال يبقون في المدرسة من الثامنة صباحا إلى الخامسة عصرا.. وعندما حاولنا أن نعيد الأمور إلى بعض نصابها، وتحديد المسؤوليات، قامت الدنيا ولم تقعد، وتظاهر الأولياء، واعتصموا عند باب الثانوية / الابتدائية، وكتبوا العرائض، وكتبوا ما كتبوا في الصحف المتلهفة دوما على نشر ما يأتيها منهم..
ــ يوم 17 / 02 / 1992 ـ انعقد مجـلس الحكومة لدراسة وثـيـقة عـنـوانها
"مخطط نشاط الحكومة"، وكان قد كلف بإعدادها فريق من الوزراء منهم الجيلالي اليابس الذي كلف بقطاعات التربية والتعليم.. فلما اطلعت، أثناء الجلسة على ما كتب عن التربية استأت للغاية. فبينما كانت المقاطع التي تناولت التعليم العالي فيها التماس للأعذار له بأنها "تسيره ديمغرافيته"، أي كثرة الطلبة، بينما قال عن المنظومة التربوية ذات الملايين الثمانية قال عنها "يتعين على المنظومة التربوية أن تباشر تقييما لا مجال فيه للمحاباة، لبيان ما تم إنجازه فيها؛ وتقديم اقتراحات بشأن الغايات المرسومة لها، وأنماط التنظيم التي ينبغي أن تعتمد فيها" ثم أضاف، "كثير من الملاحظات المتداولة تبيح التصور الشائع عن مدرسة واقعة في فخ المناقشات الإيديولوجية حتى تحـولـت (المدرسة) بـمرور السـنـيـن إلى مؤسسة لتخريب الروح المدنية، والقضاء على الشعور بالانتماء إلى أمة"!!