[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]
في إطار منظومة تشريعية متناغمة، فُرِضت شعيرةُ صيام شهر رمضان على المسلم المكلَّف الـمطيق بحبس النَّفس لمدَّة معلومة عن مشتهيات النَّفس المادِّية، بالامتناع عن الأكل والشُّرب وقرب النِّساء،
ورغائبها المعنوية، بمجانبة ما يُستَمْرَأُ من الباطل والخبيث.
في استحضار ملامِحِ العِبرَة من فَرَضِيَة شعيرة الصِّيام في صورتها الّتي شُرِعت عليها، بأركانها وشروطها وآدابها، وفي إطار قريناتها من الشَّعائر الإسلامية الأخرى، يَبرز تحقيقُ غرض التَّقوى الّذي جاءت به الآية 183 من سورة البقرة أولى هذه الملامح، وهو ما يَعني إمدادَ المسلم بأداةٍ لتطويع نفسه الطامحة، وكبح شهواته الجامحة، فيتخرَّج من مدرسة الصّيام وقد كمُلَت نفسُه، وصَحَّ بدنُه، وارتقت روحُه، وصفَا مزاجه، واستقامت رؤيته للكون والحياة، فينطلق، بعد رمضان، وقد تجدَّد بالصّيام عزمُه، وملَكَ نفسَه بعد أن كانت قد ملَكَتْه، يرى في نفسه الإنسانَ الّذي كرَّمه بارِئُه، وسخَّر له سائرَ خلقه، فهو المتبوع لا التَّابع، والسَّيد لا المَسُود، فارتقى من عالم طغيان المادة التُّرابي الثَّقيل إلى أفُق لطافة الرُّوح الفسيح.
لقد أدرك كثيرٌ من النَّاس جدوى ترويض النَّفس بالجوع فانتهجوه وسيلةً للتَّربية، وارتَضَوْه سبيلاً للصِّحة والسَّلامة، فكيف للمسلمين أن يتأخَّروا عن هذا وقد جمع لهم خالِقُهم بالصِّيام عظيمَ الأجر وجزيلَ الثَّواب؟ أفكان من اللاَّئق أن ينصرفوا عن حِكَمِه، ويحوِّلوه عن غايته، فيكتفي منه سوادُ المسلمين الأكبر بالكفِّ نهارًا عن الطَّعام والشَّراب وقُربِ النِّساء، ويقتَرفُوا بعد ذلك كثيرًا ممَّا يُخالِف جوهرَ تشريعه. أوَلمَ تُصبِح أسواقُ الصَّائمين في رمضان مسرحًا تنتعِشُ فيه مظاهر الاحتكار والغشِّ وتطفيف الميزان والخصومات والأيمان الفاجرة؟ أَوَلمَ يُصبِح هَمُّ كثيرٍ من أرباب وربَّات بيوت الصَّائمين اقتناءُ أنواع الأطعمة وصنوف المآكل والمشارب؟ أوَلمَ يَتَّخِذ كثيرٌ من الصَّائمين مساجدَهُم مراقدَ، ومن ساحاتها ومداخلها أسواقًا فوضوية؟ أَوَلمَ تخلُ كثيرٌ من المناصب الإدارية الّتي يشغلُها الصَّائمون من أهلها مُؤجِّلين مصالحَ المراجعين إلى ما بعد رمضان بحجَّة الصِّيام؟
لقد كان سلفُ هذه الأمَّة إذا استهلَّ شعبان، أكبُّوا على المصاحف فقرأوها استعدادًا لشهر رمضان، فإذا كان رمضانُ، سُمع لسَاكِنِي الحواضر دَوِيٌّ بقراءة القائمين باللَّيل من خارجها، بل لقد قال قائلهم: ''لقد كُنَّا نمكُث نصف الحول قبل رمضان نبتَهِل كي نَبْلُغَ رمضان، ونصفه ليُتقَبَّل منَّا''. وأكثـرُ من ذلك أنَّ أشهرَ إنجازاتهم الحربيَّة الكبرى كانت في رمضان، كغزوة بدر، وفتح مكَّة، وعين جالوت. شُرِع الصِّيام مدرسةً يرتادها المسلمون، يلتزمون مواقيتها الدَّقيقة، ومُقرَّراتها الصَّارمة، وينقطعون عن كلّ ما يُهدِّد سلامة التَّكوين أو يُقلِّل من فاعِليته، ممَّا تَواتَر نقلُه عن الشَّارع الحكيم. فإذا هُمْ تخرَّجوا منها، كانت نفوسُهم على أزكى ما تكون النُّفوس، وقلوبُهم على أطهر ما تكُونُ القلوب، وأجسامهم على أصحّ ما تكون الأبدان، وتلك مناطات تكريم الإنسان وأحقِّيَّته بعمارة الدُّنيا واستحقاق الآخرة.