تكفّلت بها وأدخلتها المدرسة وفضلتها على خطابها
لم تكن "منية" تدري أن زيارة مركز الطفولة المسعفة ببئر خادم رفقة عائلتها بدافع خيري ستقلب حياتها وتحولها إلى "أمّ" لرضيعة لم تنجبها وهي في الخامسة والعشرين من عمرها، وهي التي وضعت خطوة إلى عالم الأمومة بكل معانيها دون أن تحس بجنين يتحرك في أحشائها ولا بآلام المخاض، وحين كبرت الرضيعة كبرت معها الآلام وتساؤلات الناس، ولسان حالهم يقول: "أنّى لك هذا ولم يمسسك بشر ولم تكوني بغيا"، فكثرت الاتهامات والضغوط والشكوك وحرمت "منية" من الزواج لا لذنب إلا أن قلبها حن لبنت لم تنجبها.
"لم أكن أدري أنني في ذلك اليوم سأعود إلى بيتي ومعي طفلة رضيعة ولم أكن أتصور أنني سأكون أما لها ينبض لها قلبي كأنني غذيتها من حبلي السري، هناك في دار الطفولة المسعفة التقيت بأمها العزباء وهي في حالة مزرية بعدما لعب بها ذئب بشري ورماها ورضيعتها تعاني بلا رحمة، وبدموع منهمرة أوصتني أن أمنح بنتها لعائلة معروفة حتى تتمكن من رؤيتها مستقبلا، لكن القدر شاء أن أكون "أمّا" للطفلة التي ملأت حياتي رغم الصعاب والمشاكل التي صادفتني منذ اليوم الأول الذي أخرجتها فيه من مستشفى "بارني" وعمرها لم يتجاوز 10 أيام. فأول هاجس كان يؤرقني، هو كيف أقنع أهلي بقبول الطفلة في البيت لفترة مؤقتة حتى أتمكن من إيجاد العائلة التي تكفلها، مما دفعني إلى أخذ أمها إلى بيتنا حتى تحكي لهم الحقيقة وتساعدني في إقناع والدي الذي أمهلني فترة 15 يوما للبحث عمن يكفلها، لأن أمها كانت مضطرة للرجوع إلى بيتها بولاية تنس ولم يكن بإمكانها أخذها لكي لا يفتضح أمرها.
وبعد مرور أسبوع، جاءتني عائلة ثرية من بئر خادم عرضت عليّ التكفل بالصبية مقابل مبلغ مالي معتبر، لكن قلبي رفض ذلك، لأني تعلقت بالطفلة وأحببتها وباتت جزءا مني لا يمكن فصله، فقررت الاعتناء بها وكافحت طويلا من أجل إقناع أهلي الذين وافقوا على الفكرة بعد إلحاح، ومع ملازمتي للرضيعة في البيت والخارج تزايدت شكوك الناس وكلامهم الجارح في حقي، لدرجة أن البعض اتّهموني في شرفي مما خلّف الغضب والتذمر لدى أبي الذي أبدى انزعاجا كبيرا بسبب المشاكل التي سببتها الرضيعة، لكني هدأت من روعه ووعدته أن أجد حلا سريعا لكلام الناس، مما دفعني للاتصال بأجهزة الشرطة للتصريح بالرضيعة بهدف تشكيل ملف لكفالتها، خاصة أن أمها الحقيقية أعادت الزواج وأنجبت طفلا وسمحت في بنتها لدرجة أنها قالت لي "عندما تكبر ابنتي قولي لها أمك ماتت"، كما أن والدتها لم تكن تشتري لها شيئا فكل مصاريف وحاجيات البنت كنت أتكفل بها وعائلتي البسيطة، وبعد مرور سنة قررت أن أبحث عن والد الفتاة الذي تحدثت إليه عبر الهاتف بعد أشهر من البحث والتحري، في البداية أنكر علاقته بأم الصبية ولكني أصررت عليه وهددته بتبليغ الشرطة وإجراء تحاليل الحمض النووي، مما دفعه للاعتراف، لكنه رفض الارتباط الرسمي بالأم. اتصالي به انقطع بعد ذلك بسبب تضييعي لهاتفي النقال، ومنذ ذلك الوقت وأنا أبحث عن والد الطفلة، مما دفعني إلى الذهاب مرارا إلى مدينة تنس أين يقطن وذلك بعد جمع بعض المعلومات عنه، فهو يدعى عبد الله "الروجي" ويقطن في قرية سيدي عكاشة وبما أن هذه القرية محافظة جدا، خفت الذهاب إلى هناك بمفردي مما دفعني إلى إرسال بعض الأقارب لكن دون جدوى".
وتضيف مونية وهي متأثرة، "أنا أعرف أن الطفلة التي كفلتها ومنحتها لقب عائلتي ستبحث عن والديها في يوم من الأيام، ولذلك أجتهد في البحث عن والدها لأوفر عنها عناء البحث، بعدما كافحت من أجل ضمان مستقبل دراسي آمن لها بعدما كفلتها ومنحتها لقب العائلة لتيسير الأمور الإدارية وهذا ما كلفني أشهرا طويلة في أروقة المحاكم والمصالح الإدارية، لدرجة أني أهملت حياتي الشخصية والعاطفية، فكل من كان يخطبني كنت اشترط عليه تربية الطفلة، فكان يرفض وهذا ما حرمني من الارتباط لحد اليوم وفي عمري 32 سنة، والذي يؤلمني أني ارتبطت بشاب أحبني لسنوات وقبل بفكرة التكفل بالطفلة، لكن أمه رفضت وخيّرتني بين الصبية وابنها، مما أجبره على تركي. لكني لم أندم على ما فعلت، لأني أنقذت أما من الفضيحة وطفلة من الضياع والتشرد. وبالرغم أن الكثير من الناس اتهموني في شرفي، إلا أنني واجهت كل ذلك لأني فخورة بما فعلت، وأسأل الله أن يعوضني على ما عانيت من أجل أن تنعم هذه الطفلة الصغيرة بحياة آمنة وسعيدة تدرس مثلها مثل بقية الأطفال، وأنا اليوم اجتهد لأبحث عن والدها لأريح ضميري وأوفر عليها عناء البحث في المستقبل.